( شخص يعرف الحقيقة )


...
لم يمر على القصة وقت طويل ، فقد تجمعوا أسفل المنزل طالبين معرفة الحقيقة التي أعرفها ، لمطابقتها مع الحقيقة التي يعرفونها .. بالطبع كان هذا أمراً خطراً على الجميع ، خرج لهم أبي من الشرفة وصاح بهم موعيّاً :
- ستجذبون الانتباه ، وتذهبون جميعاً وراء الشمس .
...
بالتأكيد وراء الشمس هو مكان غير مرغوب ، ولكن لم ينفض الجمع .. ولا واحد منهم .
كنت أعرف الحقيقة الحقيقية ، لا الحقيقة المزيفة التي أوهمتنا بها الجهات إياها .. أو هذا ما أظنه ، فلا أحد سيدرك أنه يعرف الحقيقة الحقيقية ما لم تخبره الجهات إياها بأنه ( صح ) .. هم فقط الذين يعرفونها ، وهي تعتبر من الأسرار السرية بشدة في الدولة .
لم يدم الأمر طويلاً حتى عرفتْ الجهات الأمنية إياها بالأمر ..
...
كلا ، لم يعذبوني ، على الأقل ليس بالمعنى المعروف للتعذيب .. ربما عذبوا كل الذين تجمعوا أسفل المنزل ، ولكن أنا مازلت مهم ومبهم بالنسبة لهم .. فكانوا حذرين بشدة .
اكتفوا معي ببعض أصوات التعذيب في الغرف المجاورة .. إضاءة خافتة .. أبقى وحيداً لساعات في غرفة قليلة التهوية.. شخص يدخل يبحث عن أشياء وهمية ويأخذ أشياء بلا قيمة ويخرج دون أن ينظر إليّ أو يرد على سؤالي الوحيد .. ثم أخيراً جاء شخص للتحقيق معي ، بطريقة مهذبة .
...
سألني الأسئلة الرسمية المعتادة ، وعند الأسئلة الجادة لم يحصل على إفادة مفيدة .. بدأ يتصنع الغضب ونفاد الصبر ويعلو صوته .. لكن تخيلت كأنني في صالة عرض سينمائي أشاهد أشياء تحدث داخل الشاشة لن تؤذيني أبداً ..
...
تركوني في النهاية ، لم يعرفوا ما أعرف ولم يحتجزوني .. وكان ردي الوحيد أنني لا أعرف شيئاً حقيقياً غير الحقيقة التي نعرفها جميعاً .. وأن الناس تفتعل إشاعات وترغب في حقيقة أخرى غير التي يعرفونها .
...
بالطبع لا أعرف إن كانت الحقيقة التي أعرفها حقيقية أم لا ، فأنا لم أخبرهم بها لتحدث المطابقة.. لست مغفلاً لأخبر بها أحداً فأذهب وراء الشمس .. أو ربما أبعد .
...
ليس من العسير أن تعرف الحقيقة الحقيقية ، يكفيك بعض التأمل لتدرك كل شيء !

( جحـا جداً )



في الليل ظـَهر شاب بين النهر والصخور حاملاً ما يشبه الفانوس السحري ، بينما صوت الهواء الشديد يختلط بصوت الأمواج ، ثم انتقى صخرة كبيرة وضَع الفانوس على قمتها ، ووقف قبالته هارشاً رأسه مفكراً فيما يصنع به ، ثم تمتم :

- أدعكه وأمري لله .

حمل الفانوس وانتقل أمام الصخرة وأخذ يدعكه ، ثم تركه وابتعد قليلاً وهو يراقبه ، فخرج دخان كثيف امتزج مع صوت الهواء الشديد وهدير الأمواج فابتعد أكثر، بينما ظهر جحـا من بين الدخان حاملاً عصا مبتسماً يتطلع حوله، حدق في وجه من دعك الفانوس وملابسه وسأله :

- من أنت ؟

يرد متسائلاً باندهاش :

- انت العفريت ؟
- عفريت !! لا أنا جحا .. انت مين بقى ؟
- يعني مافيش شُبيك لبيك ؟
- لبيك مين يا عم بقولك جحا .. جحا الحكيم .
- طب وفين العفريت ؟
- أنا مش فاهم منك حاجة .. عفريت ايه ؟
- المفروض إن الفانوس ده يطلع لي منه عفريت جداً .
- لا آهو طلع لك منه جحا ، وانا أجدع من 100 عفريت يا سيدي .
- يعني هتحققلي كل أمنياتي ؟
- ليه هو أنا عفريت ؟!

أجابه بغضب :

- أومال لازمتك إيه ؟

جحا بهدوء :

- هفيدك بحكمتي .
- جحا كان غبي جداً مش حكيم .
- مش عيب تغلط في عمك جحا ؟ اسمك إيه ؟
- أنا عايز أرجعك الفانوس تاني .
- ماينفعش .
- ليه ؟ لزقة ؟
- يابني افهم .. انت خرجتني من الفانوس ، هفيدك بحكمتي لحد ما تموت.. أو ممكن أرجع فجأة بعد فترة ماعرفهاش .
- مش فاهم .
- مش مهم تفهم ، المهم تستفيد من حكمتي .
- وحكمتك دي هتخليني أغنى واحد في الدنيا ؟
- وهو الغِنى ، غنى فلوس بس ؟
- أيوة .. أهم حاجة جداً هي الفلوس .
- ليه ؟ هو احنا فين ؟ ايه البلد دي ؟
- دي البلد اللي انت بتتكلم كلامها .
- أنا باتكلم زي ما انت بتتكلم .
- دي مصر .
- بجد ؟ مصر ؟؟ أنا سعيد قوي إني في مصر .. احنا سنة كام ؟
- 2005 ميلادي .
- لأ قول لي بالهجري .
- ماعرفشي بالهجري أعرف بالميلادي .
- ليه ؟ مابتصوموش رمضان ؟
- بنصوم جداً ، بس فيه ناس بتحسب لنا الشهور الهجري وتبقى تقولنا لما رمضان يجي.
- وانت عايز فلوس ليه ؟
- كل الناس عايزة فلوس ، احنا ف زمن الفلوس فيه كل حاجة جداً .. هتجيبلي فلوس ؟
- قلتلك أنا مش عفريت .. بس الزمن اللي تبقى الفلوس فيه كل حاجة ، محتاج جحا .
- اذا كنت مش هتجيب فلوس يبقى مش عايزين جحا .
- ليه ؟ انت مش عايز الفلوس عشان تبقى غني وتِصرف كتير؟
- أيوة .
- خلاص ، هعلمك ازاي تتغني وتجيب فلوس .. بالصبر والحكمة .

قال بسخرية :

- يبقى مش هنشوف قرش إن شاء الله .. صبر مين يا عم ، احنا عندنا ناس بتجيب كل دقيقة ألف جنيه .
- يعني كام دينار ؟
- شكلك هتغلـّبني معاك جداً .
- وعّيني .. فهمني ، واستحملني .
- مافيش وقت .. الزمن ده مش وقت حد يعلّم حد فيه ، كله بيتعلم لوحده .
- الدنيا برد ، ممكن نروح مكان دفا شوية ؟
- ياريت .. ماكانش يتعز .
- هو انت مش قلت اننا في مصر ؟ يعني فيه ناس كُرما ممكن يضيّـفونا لو انت ماعندكش مأوى .
- بيتهيألك .. كل حاجة بمقابل وماعادش حاجة ببلاش .
- حتى الكرم ؟
- حتى النـَفَس .
- لاااا .. ده انتوا محتاجين جحا فعلاً .. تعالى معايا .
- على فين ؟
- مع عمك جحا ماتشيلش هَم .

*
بعد الكثير من البحث سأل جحا :

- مافيش ولا مسجد فاتح ؟ معقول ؟
- المساجد بتفتح أوقات الصلاة جداً .
- وعابرو السبيل يروحوا فين ؟
- فـُندق .
- فـو.. إيه ؟
- معاك فلوس ؟

أخذ جحا يعبث في جيبه ثم أخرج عملة معدنية وهو يقول :

- درهم أهو .

التقطه الشاب منه وهو يسخر من العملة :

- درهم ؟ ومين اللي مرسوم عليه ده ؟
- مولانا السلطان طبعاً .
- هو أيامكم كان الحاكم بيرسم نفسه على العملة ؟ أتاري اللي احنا فيه ده مش من شوية .

استرد جحا درهمه وهو يقول :

- انت لسة ماجاوبتنيش ، هنروح الفوو... اللي بتقول عليه ده ؟
- ماينفعش ، مامعاناش فلوس .
- والدرهم ده ما ينفعش ؟
- ولا بـ بريزة حتى .
- بـ .. بـريـ .. بريـ ..

قاطعه :

- خلاص ، الكلمة اللي ماتعرفهاش ماترددهاش .. تعالى نتسنكح .
- نتـ .. نتـ ..

جذبه الشاب من يده واتجها إلى أقرب مقهى صادفهم ، ولاحظ جحا بعد أن جلس ، رجلان يلعبان دومينو :

- هم بيعملوا ايه ؟
- بيلعبوا .
- ولكنهم ليسوا أطفالاً .

كان الساقي يضع أمامهم كوبين من الشاي :

- اشرب وانت ساكت ، أنا اللي جبته لنفسي .
- ولكن الساقي هو اللي جابهولك .

مد جحا يده إلى الكوب ففوجئ بسخونته ، قهقه الآخر وهو يقول ساخراً :

- باين عليك غشيم جداً .
- غـ .. غشـ ..

كان صوت الرجلين مرتفعاً وهما يتبادلان الحديث :

- سيبك ، قال يا مآمن للحريم ، يا مآمن للمعزة وسط البرسيم .

قهقه جحا بصوت عالٍ وهو يقول :

- رجل حكيم .. إنه يشبه جحا .
- مالناش دعوة ، خلينا ف حالنا ، اشرب وانت ساكت .
- لما يهدا شوية .

أخذ جحا يراقب المارة وسمع من حديث شابين عابرين :

- كرامتي ماتسمحليش أعمل كدة .
- إن كان لك عند الكلب حاجة ، قول له يا سيدي .

قهقه جحا من جديد وقال :

- شاب حكيم .. يشبه جحا .

رمقه الآخر بنظرة صامتة واستمر جحا على متابعته للمارة ، فوجد عدة أشخاص يدفعون بسيارة معطلة ، قال أحد المتطوعين بعملية الدفع :

- ارمي جامد يا أستاذ .

قال السائق :

- بس زقوا انتوا ومالكوش دعوة .

أفتى متطوع آخر :

- تلاقي البطارية نايمة .

رد متطوع ثالث :

- هتلاقي البوجيهات متآكلة .
رابع :
- شكله كدة مابيعرفش يرمي كويس .

وقف جحا واتجه إليهم بعفوية شديدة يحدق في السيارة وفيهم حتى اتجه إلى الجميع شخص لا تبدو عليه أمارات المعرفة على الإطلاق وصاح بهم :

- أنا أسطى ميكانيكي يا جماعة ، وسع يا أستاذ كدة بعد إذنك .

خرج السائق وحل مكانه الشخص هاتفاً :

- إيدكم معانا يا رجالة مرة واحدة كدة .

وبعد محاولتين بالتمام دارت السيارة وهنأ الجميع بعضهم وشكرهم السائق ثم انطلق ، عاد جحا متعجباً إلى رفيقه ولكن .. كانت الطاولة شاغرة ، وكذا كوبي الشاي .
*
( بقية القصة في المجموعة الساخرة { شنـتر ابن عداد } .. في انتظار تعليقاتكم )

المجموعة القصصـية * ما .. حدث *



في انتظار تعليقاتكم على المجموعة القصصية ( ما حدث )





المجموعة الساخرة ( شنتر بن عـداد )






( استحضــــار )



أظلمتُ المكان .. أوقدتُ شمعتين .. كنت قد جهزتُ أصدافاً ثلاثة، وقوقعة.. كيلو من السكّر.. مصحفا وأوراق فارغة.. أتممتُ كل الطقوس، والقُلـُنسوة على رأسي، بدأتُ النداء بصوت مبحوح :

- بحق الأرض والسماوات ، وما مضى وما هو آت .. بحق الموت والحياة، والشر والنجاة.. احضر آمنا يا كبير الجن ، أستفتيك في أمر مهم .

وصلني الصوت الخافت البعيد يقول بعمق :
- أنت لا تساوى كيلو السكر الذي أمامك ، فبأي حق تستدعيني ؟!

( قـرقعة )




أنا .. لا أحد يشبهني .
" يا لي من متواضع " .

*

أحرقتُ جلده بسيجاري الفاخر .
" في الواقع ، لم أر من هو أكثر مني رحمة " .

*
- من فضلك .. اعترف .
" مهذب جدا .. أنا " .

*

صرخاته العالية آلمت أذني ، أما يستحق أن نمزق له أحباله الصوتية ؟
هذا ما يدعونه بـ ( قرصة ودن ) .

*

الغرفة الضيقة عازلة للصوت .. في قبو منزل قديم ، بحيّ شعبي .. لو ساءت الأمور وانكشف الأمر ، سنخلي المنطقة ..
من جثث السكان .

*

بطيء فهمه .. بعض الكهرباء تفتـّح الذهن .

*

سئمت طول الوقت ، والنتيجة ذاكرة مشوشة وجلد محترق وأعصاب مكهربة .. وحنجرة فارغة.
" يا للملل " .

*
" يا لي من صبور " .
*

أعدتُ ربط حذائي ، وأطلقت رصاصة على الساق .. فقط.

*
أكرر ..
" يا لي من رحيم " .

*

( انهيـار )


جلستْ أمام جسده الراقد على السرير تتأمله ، وقد مدت ورديّتها بوردية زميلتها كي ترعاه لأطول فترة ممكنة ، هي لن تتركه لواحدة من الفاتنات في القسم .. ستهبه وقتها وجهدها، ثم تهبه حياتها كلها .. وسيم هو جداً ، ويستحق .
قال الطبيب عن حالته أنها انهيار مفاجئ للمعدلات الحيوية ، هذا نتيجة الجوع والإرهاق.. عندما أفاق لحظة سأله الطبيب : " انت ما أكلتش ؟ " ، أجاب : " نسيت " ، وعاد إلى غيبوبته .. هذا شخص لا ينام ..لا يأكل ، جاء مرتدياً بذلة كانت أنيقة، لابد أن لـه يومان أو ثلاثة لم يذهب إلى بيته.. مشغول هو في عمله جداً .. رجل أعمال على الأرجح.. كُثر هم رجال الأعمال الشباب هذه الأيام ، ولكن هاهو واحد منهم يلقي به الحظ في طريقها، وهي ستقتنص الفرصة .
قال الطبيب أن غيبوبته طبيعية ، فجسده يحتاج إلى الراحة بشدة ، وسيخرج خلال يومين على الأكثر، لكن عليه تناول وجبة غذائية مناسبة قبل الخروج من المستشفى .. لم يسأل عنه أي أحد ، ولم يجدوا في جيوبه ما يفيد ليتصلوا بذويه ، حتى أنه لا يحمل محفظة أو نقوداً .. هكذا هم رجال الأعمال لا يحملون نقوداً .. بدأ يفيق .
اقتربتْ منه أكثر ليرى وجهها ، فليعلم الآن من الملاك الذي كان يسهر على رعايته ويهتم به .. حاول التحرك من رقدته ولكن نغزته إبر المحاليل الموصلة بذراعيه، فنهضت لتعينه.. ابتسم لها شاكراً ، وذهبت لإحضار الطبيب .

- حمد الله ع السلامة يا بطل .
- الله يسلمك يا دكتور .
بدأ الطبيب يفحصه ويطمئن على حالته ، ثم أفاده :
- انت نمت كويس ، بس لسة ناقصك غِذا كويس .
أومأ برأسه ، ثم قال الطبيب :
- لقد أرهقت نفسك كثيراً ، ماذا تعمل ؟
- أنا لا أعمل يا دكتور .. أنا أبحث عن عمل .
كانت الصدمة قاسية ، قاسية جداً .. وقعُ الكلمة على أذنيها دمر أحلامها ، وجعل كل آمالها تنهار في لحظة ، قال الطبيب :
- قدامك يومين كمان وتقدر تخرج .

خرج الطبيب فخرجت الممرضة في إثره ، واتجهت إلى واحدة من زميلاتها تطلب منها القيام بأعمالها بدلاً عنها .. فهي ستقدم طلب إجازة لمدة يومين .

**

( القمقم )


منذ سبعة آلاف عام وضعوا مصر في قمقم .. ومنذ بضع سنوات وجد أحدهم هذا القمقم صدفة ، ففتحه .. ولكن لم تخـرج مصــر .